كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحى إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحى إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح أرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورًا بالتبليغ فيكون رسولًا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلابد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما، والتمني على ما قال أبو مسلم نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد: التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما.
تمني كتاب الله أول ليلة ** تمني داود الزبور على رسل

وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئًا فشيئًا، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولًا ولا نبيًّا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئًا من الآيات القى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم} [الأنعام: 121] وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شياطين الإنس والجن يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول} [الأنعام: 112] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} [القرة: 173] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة وسلم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم لرده أو بأنزال ما يرده {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلا رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة.
ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار {الشيطان} {والله عَلِيمٌ} مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه {حَكِيمٌ} في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضًا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي.
{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)}.
{لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان} أي الذي يلقيه وقيل: القاءه {فِتْنَةً} أي عذابًا.
وفي البحر ابتلاء واختبارًا {لّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين {في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} [البقرة: 10] وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر {والقاسية قُلُوبُهُمْ} أي الكفار المجاهرين، وقيل: المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة، وحمل الأولين على الكفار مطلقًا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء.
{وَإِنَّ الظالمين} أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي عداوة شديدة ومخالفة تامة، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضة للمبالغة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، ولام {لِيَجْعَلَ} للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بـ {يحكم} [الحج: 52] وعند ابن عطية بـ: {ينسخ} [الحج: 52] وعند غيرهما بـ: {ألقى} [الحج: 52] لَكِن التعليل لما ينبىء عنه القاء الشيطان من تنكينه تعال إياه من ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لعطف {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} وكون ضمير {أَنَّهُ} للقرأن، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير {أَنَّهُ} لتمكين الشيطان من الالقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الانس من لدن آدم عليه السلام، وضميرًا {بِهِ وَلَهُ} في قوله تعالى: {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانًا {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} بالانقياد والخشية للقرأن على التخصيص وللرب على التعميم، وجعلهما لتمكين الشيطان لاسيما الثاني مما لا وجه له.
ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابًا للمنافقين والكافرين أي سببًا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبار لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القران هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ} الخ متعلقًا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل الخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل {لِيَجْعَلَ} علة النسخ {وَلِيَعْلَمَ} علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل {لِيَجْعَلَ} علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد، ويجوز أيضًا أن ترجع الضمائر في {أَنَّهُ وَبِهِ وَلَهُ} للموحى الذي يقرأه كل من الرسل والأنبياء عليهم السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص، وأيًّا ما كان فقوله تعالى: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامَنُواْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} اعتراض مقرر لما قبله، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقًا على تقدير التعميم، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصًا في المداخض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عز وجل.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة: {لَهَادِ} بالتنوين، {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ} أي في شك {مِنْهُ} أي من القرآن؛ وقيل: من الرسول، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحى على ما سمعت و{مِنْ} على جميع ذلك ابتدائية، وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان وأختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحى من الشبه والتخيلات فتأمل {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى: {بَغْتَةً} أي فجأة فإنها الموصوفة بالاتيان كذلك، وقيل: أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز.
وقيل: الموت على أن التعريف في {الساعة} للعهد {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي منفرد عن سائر الأيام لا مثل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد.
ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيمًا، والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضًا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف.
و{أَوْ} في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية، وقيل: المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم، وقيل: المراد به يوم حرب يقتلون فيه، ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم، وفيه على الأول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقمًا، وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هي الحرب على سبيل الاستعارة بالَكِناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازًا في الإسناد، ومن ثم قيل: إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان، وقيل: هو الذي لا خير فيه يقال: ريح عقيم إذا لم تنشيء مطرًا ولم تلقح شجرًا، وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم، وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم، ويصح أيضًا أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم السلام فيه، وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة، هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر بن الحرث كان يلقي الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام، وقيل: ضمير {أمنيته} للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و{في} للسببية مثلها في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأة دخلت النار في هرة» أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات.
وقيل: {تمني} قرأ و{في أمنيته} قراءته والضميرء للنبي أو الرسول و{في} على ظاهرها، والمراد بما يلقى الشيطان ما يقع للقارئ من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهوًا، وقيل: المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الاحتمالات التي ليست مرادًا لله تعالى، وقيل: تمني هيأ وقدر في نفسه ما يهواه و{أمنيته} قراءته، والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبهًا فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها، وقيل: {تمني} قدر في نفسه ما يهواه و{في أمنيته} تشهيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا، وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الاشتغال بأمور الدنيا، ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يزينه.
وقيل: {تمني} قرأ و{في أمنيته} قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي، وقد روى أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة والسلام {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] فألقى الشيطان في سكتته محاكيًّا نغمته عليه الصلاة والسلام بحيث يسمعه من حوله تعالى الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي فظن المشركون أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكمل بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة، وقيل: المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم به، وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي تلكم بذلك عامدًا لَكِن مستفهما على سبيل الإنكار والاحتجاج على المشركين، وجعل من إلقاء الشيطان لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم، ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزًا إذ ذاك.
وقيل: بل كان ساهيًّا، فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] قال: إن شفاعتهن ترتجي وسها رسول الله عليه الصلاة والسلام ففرح المشركون بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ألا إنما ذلك من الشيطان» فأنزل الله تعالى: {وما أرسلنا} حتى بلغ {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 52-55]، قال الجلال السيوطي: وهو خبر مرسل صحيح الإسناد، وقيل: تكلم بذلك ناعسًا.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: بينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم ها قال: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} وإن شفاعتهن لترتجي وإنها لمع الغرانيق العلا فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها فزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى: {وما أرسلنا} الآية، وقيل: {تمني} قدر في نفسه ما يهواه و{أمنيته} قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولَكِنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولَكِنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى: {وما أرسلنا} [الحج: 52] الآيات، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا أنها وحى حتى نبهه جبريل عليه السلام، ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر.
وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم فلما بلغ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال: اعرض على ما جئتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي قال له جبريل عليهما السلام: لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى: {وما أرسلنا} [الحج: 52] الآية.
وأخرج البزار، والطبري، وابن مردويه، والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك لَكِن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضًا مغايرة يسيرة غير ذلك، وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزار.
وابن مردويه أيضًا من طريق أمية بن خالد عن شعبة لَكِن قال في إسناده: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله، وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه السلام قال له عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه ذلك: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه {وما أرسلنا} [الحج: 52] الآية قيل: ولمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لَكِن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الإخبار فلابد من تأويل ما لذلك، وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
وقال القاضي عياض في الشفاء: يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون. والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتابًا.
وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله: تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية.